لا
هذه المعارضة بهزلها وهزالها قادرة على إسقاط النظام، ولا النظام بمستطيع
أن يفاجئ المصريين بحزمة من الإجراءات والقرارات تجفف منابع الغضب القائم
فى بعض المناطق، وتجمع الشعب حول مشروع قومى حقيقى، تتقدم فيه قيم الفعل
والعمل على شهوة الكلام والصراخ.
إذن هى حرب استنزاف داخلية، لن يكسبها أحد وسيخسرها الجميع بالتأكيد، غير أن خسارة المواطن العادى البسيط المطحون هى الأفدح، وخسارة الوطن فى قيمه وأخلاقه ومكونات وجوده الأساسية هى الأعلى.
إن البلاد تستهلك طاقتها وجهدها فى عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من
عناوين ثابتة لا تتغير، يشتبك حولها المتحاربون، فى هذه الطاحونة العبثية،
فمرة يشتعل وطيس الاشتباك حول النائب العام، ثم فجأة يوضع الملف فى أدراج
ورشة تصنيع الغضب، ليبدأ استعمال ملف آخر، مثل وزير الداخلية، فتشتد
المطالبات بإقالته حتى يخيل إليك أن تغييره هو قضية مصر المحورية، ثم تخفت
الأصوات شيئا فشيئا حتى تتلاشى ويخرج ملف آخر، وبالمناسبة هذا السيناريو
حدث مع وزير الداخلية السابق أحمد جمال الدين الذى كانت إقالته يوما مطلبا
ثوريا، وخصوصا بعد الانتهاء من تقرير لجنة تقصى الحقائق عن قتل الثوار، ثم
وبقدرة قادر أصبح الاحتجاج على إقالته عملا ثوريا جدا.
وفى موضوع
النائب العام ومؤسسة القضاء ستجد العجب العجاب، فهذا القضاء شامخ مستقل
صيفا، شائخ وشائه ومسيس شتاء، فى نظر بعضهم، كما كان المستشار عبدالمجيد
محمود عنوانا دائما للغضب على العبث بقضايا قتل المتظاهرين قبل الإقالة،
ورمزا للثورة (المهندسة وراثيا) بعد الإقالة.
لقد تعالت صيحات
الإعجاب وتمايلت الحناجر طربا حين أقدم أحد رؤساء محكمة جنح الأزبكية على
إخلاء سبيل متهم، معتبرا أن دعوى اتهامه محالة من نائب عام غير شرعى، فقرر
عدم قبولها.. وقتها جرى التعامل مع هذا القاضى على أنه بطل شعبى ورمز ثورى،
بل ذهب بعضهم إلى أنه من فرسان معركة استقلال القضاء ٢00٥ رغم أنه كان
مارا بالمصادفة، ودارت ماكينة التوك شو العملاقة تحلل وتفسر وتشرح فى روعة
هذا الحكم التاريخى والدرس الذى لقنه قضاء شامخ للنائب العام ورئيس
الجمهورية وإعلانه الدستورى.
ومنذ أيام قلائل نسفت محكمة
الاستئناف برئاسة المستشار محمد إبراهيم هذه الأسطورة المصنوعة إعلاميا من
جذورها، حين ألغت حكم قاضى الجنح وأصدرت حكما جديدا أكدت فيه حق رئيس
الجمهورية فى إصدار إعلان دستورى فى مرحلة انتقالية، ومن ثم سلامة إجراءات
تعيين النائب العام الجديد، وأيضا تهافت منطق عدم قبول الدعوى بحجة عدم
شرعية تعيينه.
وبالطبع لم يعر أحد هذا الحكم التفاتا ولم تتسابق الفضائيات على تحليله ومناقشته ولم ينشر إلا على استحياء فى بعض المواقع.
وهذا يعيدنا إلى جوهر الموضوع: نحن نعيش حالة من صناعة الصور واختلاق
العناوين لكى تستمر هذه الحرب المجنونة لأقصى مدى، فيتم النفخ فى مستصغر
الأشياء والقضايا، بينما يتم التعتيم على ما يستحق.. وهكذا تعيش مصر داخل
سيرك يقوم عليه مجموعة من الحواة والمهرجين، يعتمد على مهارات الإبهار
والإيهام بأحدث صيحة فى عالم «الفوتوشوب» السياسى.